الحمد لله الذي هدى إلى الإحسان، وجعل كتابه دليلاً لأهل الإيمان، والصلاة والسلام على مَن زانه ربه بالقرآن، وحباه بليلة القدر في رمضان، وعلى آله سادة الأزمان، وصحبه نجوم الأكوان، وعلى مَن تبعهم من أهل الحق والإتقان، وبعد:
فسلام من الله عليكم ورحمة من لدنه وبركات.
يقام هذا الاحتفال الكبير المبارك بليلةِ القدرِ التي أشرقت منها هويةُ هذه الأمة وأينعت حضارتُها،
لذا كانت ليلةً عظيمةَ الشأنِ رفيعةَ الشرفِ، والشريف والعظيم يرفع قَدْر مَن يلوذ به ويكون معه.
أيها المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها: إن للمناسبات الكريمة والأحداث العظيمة آثاراً بعيدة المدى؛ تسمو بالناس بقَدْر ما لها من قوة دافعة، وبقَدْرِ ما يقتربون منها، ويعرفون قَدْرَها.
وإنّ اللياليَ والأيام لَتكتسِب مِيزتها من الحدث الذي يقع فيها؛
وإننا في ليلةٍ مباركةٍ عظيمٌ نفعُها، كثيرٌ خيرُها؛ تُعَلِّمُنَا حركةَ الحياة، وتُرْشِدنا إلى وسائل الإحياء.
فرمضان زمان، وليلة القدر وعاء حوى رسالة، واستقبل أمانة، أدَّاها رسول الله e؛ ومطلوب منَّا متابعة هذه الأمانة؛ حفظاً وتبليغاً،
هذه الأمانة هي القرآن، قال تعالى: ]وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ[([1])؛ أي: شرف ومكانة، وعز وكرامة؛ لك يا محمد اللهم صل وسلم عليه ولقومك من بعدك.
وسوف تُسألون أيها العرب عن أمانة القرآن، وسوف تُسألون عن حمل رسالة الإسلام، ففي ذلك قَدْركم، قال تعالى: ]لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابَاً فِيهِ ذِكْرُكُمْ[([2])؛ أي: فيه عزكم ومجدكم، فيه شرفكم وكرامتكم ومكانتكم بين الأمم.
فلنأخذِ القرآنَ بقوة؛ قوةِ الفهم والعقل، قوة الخُلُقِ والعمل.
والمطلوب من المسلمين أن يتعاملوا مع ليلة القدر بما فيها من معانٍ سامية، وقيمٍ راقية.
· فالقَدْر يعني فيما يعني: الموازنةَ والتقدير، والنية والتخطيط، لتحقيق الآمال والمقاصد، والوصول إلى المرامي والأهداف؛
فماذا تريد أيها المؤمن من ربك؛ لنفسك وأسرتك ومجتمعك، لوطنك وأمتك،
فالبدءُ بالأعمال يمر عبر النية والتخطيط، وتقديرُ الأمورِ منوطٌ بمقاصدها، والعاقبة للمتقين.
وبعد النية والموازنة ومباشرة العمل وأدائه تأتي مرحلة المحاسبة والمراجعة، لوضع التقدير الصحيح.
· فليلة القَدْر تعني فيما تعني: إعطاءَ الدرجةِ والعلامةِ والتقدير؛ لأعمالك وأقوالك، وتصرفاتك وسلوكك؛ على أساسٍ من القرآن والسنة؛
لترى نتيجة عملك: أمن الناجحين الفائزين، أم من الخائبين الخاسرين؟!!.
فيا لسعادةِ مَن كانت نتيجةُ عمله نجاحاً وتشريفاً،
ومراجعةُ أمورِ دنياه تقدماً وازدهاراً،
وتقديرُه الروحي رقياً وفلاحاً.
· وبعد الموازنة والتقدير يأتي دور التشريف والوقار والتعظيم، والعزة والتمكين والتكريم؛
بعلوّ الدرجة ورفعة المنزلة عند الله؛
وذلك بمقدار ما تحمل في فكرك وعقلك وقلبك؛
فتَشَرَّف أخي المؤمن بالقرآن حملاً، وارفع قَدْرَك به عملاً.
· وإلى أولئك الذين فاتتهم هذه الحركة الانسيابية من الموازنة والتخطيط، والتقدير بالتشريف؛
فليلة القدر لا تفوتهم؛ إذ هي ليلة العزم والتأكيد:
فمَن عاش ليلة القدر بخشوع وصفاء، وطهر ونقاء؛ متوكلاً على خالق الأرض والسماء؛
فتح الله عليه، وألهمه رشده؛ وكانت ليلةُ قَدْره يومَ تعظيمِ ربه، وتوقيرِ دينه.
ألا وليُعلم أن ليلة القدر ليست ظاهرةً كونيةً تلمع، ولا شبحاً غامضاً في أرجاء السماء يُلمح، ولا رؤيةَ ملاكٍ في الفضاء يسبح.
ليلة القدر ليست مجرد نوراً في الظلام يسطع، ولا كنزاً مالياً بالصدفة يُدْفَع.
ليلة القدر ليست كوكباً درياً في سماء الكون يوقد، ولا صورةً جميلة في مخيلة الذهن تظهر.
فهذه وأمثالها أوهام في فهم العبادة، وانحرافات في وعي الدين، وذلك حين يكون التطلع إلى شكل العبادة بعيداً عن مضمونها، وحين يكون النظر إلى السطحيات لا إلى العمق والهدف، وعندها يُجَمَّد الدين عن الواقع ويُعزل، ويتحوّل إلى مجرد طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد.
ليست ليلة القدر كذلك؛ بل هي ليلة حصاد جهود أعمال أديتها على مدار العام؛ عبر سنوات عمرك، وأشهرِ سنتك وعامك، وأيام شهرك؛ لا للحظات أو سويعات، بل بأوقات مستديمات،
نعم، ليست ليلة القدر عبادةَ ساعاتٍ أو أيام، بل يكون ذلك دأبك على الدوام.
ويتحقق المراد: عندما يتحول كلُ مسلم إلى قرآنٍ بالحق ناطق، ولخير البشرية فاعل، ولنفع الخلق ساعٍ؛ بتلاوة القرآن حق تلاوته؛
ففعل: (تلا) لا يعني (قرأ) فقط، بل أصل معناه اللغوي: (تبع)، قال تعالى: ]وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا([3])؛ أي: تبعها،
وأنتم يا أهل القرآن، ويا مَن أوتيتم الكتاب: اتَّبِعوا ما فيه واعملوا بأحكامه، وتخلقوا بأخلاقه، قال تعالى: ]الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكَتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ[([4])، وكان e خُلُقه القرآن.
أيها الأخوة والأحبة: بالقرآن أضاءت الأرض بنور السماء، وسمت الأمة وارتفعت بخير النداء؛ مستخدمة العلم وسيلة للرقي والتقدم، وأداة للرفعة والتمدن؛ إذ كان أول توجيه في القرآن: ]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ[([5])، ومنها انطلقت الحضارة الإسلامية الإنسانية وانتشرت.
فيا قارئ القرآن لا تقرأ وَرَقَهْ، بل اقرأ وارقى، وفي الحديث: "يُقَال لصاحبِ القرآن يوم القيامة اقرأ وارْقَ ورتِّل كما كنت تُرَتِّل في الدنيا؛ فإن منزلتَك عند آخر آية تقرؤها"([6])، هكذا شأن مَن عرف قَدْر قرآنِ ربه، وقرأ القرآن في ليلةِ قَدْرِه.
ليلة القدر ]سَلاَمٌ هِيَ[([7]) بين الناس، وطمأنينة هي بذكر الله في القلوب، وصفاء هي في النفوس.
ليلة القَدْر لحظةُ ]مَطْلَعِ الْفَجْرِ[([8]) نوراً يشع من قلبك الذاكر لله على جوارحك، وينتقل قيماً وأخلاقاً إلى سلوكك وأعمالك.
فمَطْلَع الفجر مولد النهار بضيائه بعد ليل مظلم مدلهم، مولد السعادة بعد الشقاء، مولد الطاقة بعد المعصية، مولد القرب إلى الله بعد الجفاء، مولد العهد بينك وبين ربك على الثبات والاستقامة.
وما أحوج الأمة اليوم لطلوع فجر نصرها الكامل، وبزوغ نهار عدلها المشرق، وزوال الغيوم عن شمس حضارتها، وفي الحديث: "إن الله لَيَرْفَعُ بهذا الكتاب أقواماً اللهم ارفعنا بالقرآن وانفعنا ويَضَعُ به آخرين"([9]).
فَأَقْبِلُوا عباد الله على القرآنِ بصدورٍ منشرحة، وقلوبٍ منفتحة، وعقولٍ واعية، ونفوسٍ مطمئنة؛ ليُعتمد القرآن ركيزة للعلوم، وأساساً للمعارف والفهوم، ومنطلقاً للدراسات والأبحاث، ومُحَدِّدَاً للقيم والمفاهيم، ومفتاحاً للانتصارات؛ باستخدام أسلوب الإحياء والتطوير، والانبعاث والتحديث.
فليس هناك أرقى من نهضةٍ؛ تقومُ على العلم.
ولا أبقى على حضارةٍ؛ تكون الحكمةُ رائدها.
ولا أخلدَ من أمةٍ تقومُ على الصلةِ الربانية والطهارةِ النفسية.
وكل هذا مبثوث موجود في كتاب ربك.
فالقرآن الكريم نورُ العلم الذي خرجت به الأمة من ظلمات الجهل وترهات الجاهلية.
وهو الهدى نحو الرقي الإنساني بعد حيرة الضلالات السابقة واللاحقة.
وبكلمة جامعة: القرآنُ حركةُ إحياءٍ وانبعاث؛ ونهضةٍ وعُمْران؛ يُصْلِحُ الزمانَ والمكانَ والإنسانَ؛ لطي صفحات الخمول والموات، وتذويب التحجر والجمود، وتجاوز المحاكاة والتقليد؛ للوصول إلى حركة الفعل والإبداع، وتجدد الجهاد والاجتهاد والتلازم بينهما، وللوصول إلى خير المواكبة والتحديث، ونعمةِ الواقعية والتطوير، قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وِلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ([10]).
ففي الإحياء حياة لكل شؤون الناس، وتنمية اقتصادية واجتماعية على أوسع مجال.
ففي إحياء ليلة القدر حياة للإنسان الفرد؛
طوبى لِمَن أحيا ليلة القدر ببذل الخير وفعل المعروف؛ برفع مستوى معيشةٍ لفرد.
وطوبى لِمَن خفف آلام أسرة، ونقلها من حالة فاقة وضيق، إلى ساحة كفافٍ وَسَعَةٍ، بتحقيق الكفاية الحياتية لها.
في مثل هذا إحياءُ ليلةِ قَدْرِك، وبمثل هذا تشريفٌ لمنزلتك، فهذه الأعمال وأشباهُها هي الرافعة لشأنك، والمشرِّفة لِقَدْرك؛ عند الله وعند خلقه.
ونلمح في الإحياء نورَ تنميةٍ في المجال الاقتصادي الخاص والعام؛ بتحويله من مشروعِ إنفاقٍ خِدْمي صِِرْفٍ؛ إلى مشروعٍ تنموي مثمرٍ منتج، وفي هذا عملية إحياءٍ، وحسنُ تقديرٍ؛ متوافقٌ مع ليلة القدر.
في الإحياء للحياة: تنمية للواقع المادي بما يُحَسِّنْه، وللأعمال بما يجعلها مُتْقَنَة، وللفنون بما يُجَمِّلُها؛ مع ربط كل ذلك بالخالق المكوِّن، بالرحيم الرحمن، بِمَن عَلَّم الإنسانَ القرآن؛ متجاوزين التعلق بالشكل والمظهر، واصلين إلى الحقيقة والجوهر؛
فالعلوم مرتبطة بالله العليم، والعمل مرتبط بالله الرقيب، والحكمة مرتبطة بالله الحكيم، والصنعة والصناعة مرتبطة بالله الخبير، والزراعة مرتبطة بالله المحيي، والتجارة مرتبطة بالله الحسيب، والطب مرتبط بالله الشافي، والهندسة مرتبطة بالله المبدع، والقضاء مرتبط بالله العادل، والمحاماة مرتبطة بالله الحق، وهكذا في كل شؤون الحياة.
فهنيئاً لكم أيها السالكون سبل إحياء الإنسان، هنيئاً لكم أيها العاملون في سبيل التنمية؛ وقد اتخذتم سبل التحديث من مفاهيم القرآن، واستخدمتم أدوات التطوير من نتاج حضارة الإسلام؛ بعيداً عن التقليد والمحاكاة للآخر، ليس نبذاً أو تنكراً، بل تأصيلاً وتحققاً.
فلسطين والعراق:
أيها المؤمنون في كل مكان: يحتفل المسلمون بليلة القدر وشعبنا في فلسطين الحبيبة، وفي العراق الجريح؛ يعيش حالة تُدمِي القلب، وتَعصِر الفؤاد.
فمع لحظات الغروب يفطرون على صوت المدافع، لكنها المدافع القاتلة والقنابل المتفجرة.
ويصومون مع هدير الطائرات ودوي الدبابات وأزيز الرشاشات؛ تخترق أجسامهم، وتدمِّر أحلامهم، وتخطف بالموت مواليدهم وأطفالهم.
ولهم علينا حق؛ فإن لم نتمكن اللحظةَ واليومَ من أداء كامل هذا الحق هواناً وضعفاً؛ فلا أقل من المحافظة على هذا الحق وصيانته، وتوريثه لأجيالنا وأبنائنا عزة وقوة؛
فالقدس أمانة، ووحدة الأمة والشعب أمانة، ووحدة المسار والمصير أمانة، ومأمورون من الله بأداء الأمانة.
تذكروا عباد الله: أنه في الوقت الذي تمتلأ فيه مساجد المسلمين في شتى بقاع العالم بالعُبَّاد والداعين، الراكعين الساجدين في ليلة القدر المباركة؛ فإن هناك مسجداً أسيراً؛
الأقصى وراء القضبان صامد، وخلف الأسوار ثابت، يرنو بعين حزينة، نحو أمة ضعيفة عن نصرته، كليلة عن تأييد حق شعبه.
المسلمون وتهمة الإرهاب:
أيها المسلمون: يأتي احتفالنا اليوم وسط ظروف عالمية تحتم العمل الدؤوب بمسئولياتنا؛ كلٌّ في موقعه على أكمل وجه، وأعلى درجة من الإحكام والتقدير، إذا أردنا أن نحيا ليلة القدر بمعناها؛ للحفاظ على خصوصياتنا الدينية والثقافية والاجتماعية.
فلقد اُتخذت بعضُ الأحداثِ ذريعةً للإيحاء للعالم بوجود صلة بين أمتنا المسلمة، وبين القتل والتدمير والإبادة والتطرف، وقاموس التهم جاهز.
وحُوِّلَت أنظارُ المؤسساتِ الدوليةِ الكبرى إلى أعمال عنف فردية أو جماعية، وتناست بل تعامت عن أعمال العنف المنظَّم؛ الذي يُجرِّف الأرض، ويُهدِّم الحجر، ويُحرِّق الشجر، ويقتلع الإنسان من جذوره، ويغتال شعباً أعزل بأكمله.
وماذا يُسمى احتلالُ أرض الغير، وامتهانُ كرامة الإنسان، وإذلالُ الشعوب؛ إن لم يكن إرهابَ دولة؟!!!.
الدعاء:
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وأدم اللهم نعمة الاستقرار في بلادنا، ونعمة التقدم والازدهار في ربوعنا.
اللهم إنك عفو تُحب العفو فاعفو عنا، واقض حوائجنا فيما يرضيك عنا.
وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر الميامين، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ علاء الدين الزعتري
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) سورة الزخرف، [43/44].
([2]) سورة الأنبياء، [21/10].
([3]) سورة الشمس، [91/2].
([4]) سورة البقرة، [2/121].
([5]) سورة العلق، [96/1].
([6]) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو.
([7]) سورة القدر، [97/5].
([8]) سورة القدر، [97/5].
([9]) رواه مسلم.
([10]) سورة الأنفال، [8/24].
فسلام من الله عليكم ورحمة من لدنه وبركات.
يقام هذا الاحتفال الكبير المبارك بليلةِ القدرِ التي أشرقت منها هويةُ هذه الأمة وأينعت حضارتُها،
لذا كانت ليلةً عظيمةَ الشأنِ رفيعةَ الشرفِ، والشريف والعظيم يرفع قَدْر مَن يلوذ به ويكون معه.
أيها المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها: إن للمناسبات الكريمة والأحداث العظيمة آثاراً بعيدة المدى؛ تسمو بالناس بقَدْر ما لها من قوة دافعة، وبقَدْرِ ما يقتربون منها، ويعرفون قَدْرَها.
وإنّ اللياليَ والأيام لَتكتسِب مِيزتها من الحدث الذي يقع فيها؛
وإننا في ليلةٍ مباركةٍ عظيمٌ نفعُها، كثيرٌ خيرُها؛ تُعَلِّمُنَا حركةَ الحياة، وتُرْشِدنا إلى وسائل الإحياء.
فرمضان زمان، وليلة القدر وعاء حوى رسالة، واستقبل أمانة، أدَّاها رسول الله e؛ ومطلوب منَّا متابعة هذه الأمانة؛ حفظاً وتبليغاً،
هذه الأمانة هي القرآن، قال تعالى: ]وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ[([1])؛ أي: شرف ومكانة، وعز وكرامة؛ لك يا محمد اللهم صل وسلم عليه ولقومك من بعدك.
وسوف تُسألون أيها العرب عن أمانة القرآن، وسوف تُسألون عن حمل رسالة الإسلام، ففي ذلك قَدْركم، قال تعالى: ]لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابَاً فِيهِ ذِكْرُكُمْ[([2])؛ أي: فيه عزكم ومجدكم، فيه شرفكم وكرامتكم ومكانتكم بين الأمم.
فلنأخذِ القرآنَ بقوة؛ قوةِ الفهم والعقل، قوة الخُلُقِ والعمل.
والمطلوب من المسلمين أن يتعاملوا مع ليلة القدر بما فيها من معانٍ سامية، وقيمٍ راقية.
· فالقَدْر يعني فيما يعني: الموازنةَ والتقدير، والنية والتخطيط، لتحقيق الآمال والمقاصد، والوصول إلى المرامي والأهداف؛
فماذا تريد أيها المؤمن من ربك؛ لنفسك وأسرتك ومجتمعك، لوطنك وأمتك،
فالبدءُ بالأعمال يمر عبر النية والتخطيط، وتقديرُ الأمورِ منوطٌ بمقاصدها، والعاقبة للمتقين.
وبعد النية والموازنة ومباشرة العمل وأدائه تأتي مرحلة المحاسبة والمراجعة، لوضع التقدير الصحيح.
· فليلة القَدْر تعني فيما تعني: إعطاءَ الدرجةِ والعلامةِ والتقدير؛ لأعمالك وأقوالك، وتصرفاتك وسلوكك؛ على أساسٍ من القرآن والسنة؛
لترى نتيجة عملك: أمن الناجحين الفائزين، أم من الخائبين الخاسرين؟!!.
فيا لسعادةِ مَن كانت نتيجةُ عمله نجاحاً وتشريفاً،
ومراجعةُ أمورِ دنياه تقدماً وازدهاراً،
وتقديرُه الروحي رقياً وفلاحاً.
· وبعد الموازنة والتقدير يأتي دور التشريف والوقار والتعظيم، والعزة والتمكين والتكريم؛
بعلوّ الدرجة ورفعة المنزلة عند الله؛
وذلك بمقدار ما تحمل في فكرك وعقلك وقلبك؛
فتَشَرَّف أخي المؤمن بالقرآن حملاً، وارفع قَدْرَك به عملاً.
· وإلى أولئك الذين فاتتهم هذه الحركة الانسيابية من الموازنة والتخطيط، والتقدير بالتشريف؛
فليلة القدر لا تفوتهم؛ إذ هي ليلة العزم والتأكيد:
فمَن عاش ليلة القدر بخشوع وصفاء، وطهر ونقاء؛ متوكلاً على خالق الأرض والسماء؛
فتح الله عليه، وألهمه رشده؛ وكانت ليلةُ قَدْره يومَ تعظيمِ ربه، وتوقيرِ دينه.
ألا وليُعلم أن ليلة القدر ليست ظاهرةً كونيةً تلمع، ولا شبحاً غامضاً في أرجاء السماء يُلمح، ولا رؤيةَ ملاكٍ في الفضاء يسبح.
ليلة القدر ليست مجرد نوراً في الظلام يسطع، ولا كنزاً مالياً بالصدفة يُدْفَع.
ليلة القدر ليست كوكباً درياً في سماء الكون يوقد، ولا صورةً جميلة في مخيلة الذهن تظهر.
فهذه وأمثالها أوهام في فهم العبادة، وانحرافات في وعي الدين، وذلك حين يكون التطلع إلى شكل العبادة بعيداً عن مضمونها، وحين يكون النظر إلى السطحيات لا إلى العمق والهدف، وعندها يُجَمَّد الدين عن الواقع ويُعزل، ويتحوّل إلى مجرد طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد.
ليست ليلة القدر كذلك؛ بل هي ليلة حصاد جهود أعمال أديتها على مدار العام؛ عبر سنوات عمرك، وأشهرِ سنتك وعامك، وأيام شهرك؛ لا للحظات أو سويعات، بل بأوقات مستديمات،
نعم، ليست ليلة القدر عبادةَ ساعاتٍ أو أيام، بل يكون ذلك دأبك على الدوام.
ويتحقق المراد: عندما يتحول كلُ مسلم إلى قرآنٍ بالحق ناطق، ولخير البشرية فاعل، ولنفع الخلق ساعٍ؛ بتلاوة القرآن حق تلاوته؛
ففعل: (تلا) لا يعني (قرأ) فقط، بل أصل معناه اللغوي: (تبع)، قال تعالى: ]وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا([3])؛ أي: تبعها،
وأنتم يا أهل القرآن، ويا مَن أوتيتم الكتاب: اتَّبِعوا ما فيه واعملوا بأحكامه، وتخلقوا بأخلاقه، قال تعالى: ]الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكَتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ[([4])، وكان e خُلُقه القرآن.
أيها الأخوة والأحبة: بالقرآن أضاءت الأرض بنور السماء، وسمت الأمة وارتفعت بخير النداء؛ مستخدمة العلم وسيلة للرقي والتقدم، وأداة للرفعة والتمدن؛ إذ كان أول توجيه في القرآن: ]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ[([5])، ومنها انطلقت الحضارة الإسلامية الإنسانية وانتشرت.
فيا قارئ القرآن لا تقرأ وَرَقَهْ، بل اقرأ وارقى، وفي الحديث: "يُقَال لصاحبِ القرآن يوم القيامة اقرأ وارْقَ ورتِّل كما كنت تُرَتِّل في الدنيا؛ فإن منزلتَك عند آخر آية تقرؤها"([6])، هكذا شأن مَن عرف قَدْر قرآنِ ربه، وقرأ القرآن في ليلةِ قَدْرِه.
ليلة القدر ]سَلاَمٌ هِيَ[([7]) بين الناس، وطمأنينة هي بذكر الله في القلوب، وصفاء هي في النفوس.
ليلة القَدْر لحظةُ ]مَطْلَعِ الْفَجْرِ[([8]) نوراً يشع من قلبك الذاكر لله على جوارحك، وينتقل قيماً وأخلاقاً إلى سلوكك وأعمالك.
فمَطْلَع الفجر مولد النهار بضيائه بعد ليل مظلم مدلهم، مولد السعادة بعد الشقاء، مولد الطاقة بعد المعصية، مولد القرب إلى الله بعد الجفاء، مولد العهد بينك وبين ربك على الثبات والاستقامة.
وما أحوج الأمة اليوم لطلوع فجر نصرها الكامل، وبزوغ نهار عدلها المشرق، وزوال الغيوم عن شمس حضارتها، وفي الحديث: "إن الله لَيَرْفَعُ بهذا الكتاب أقواماً اللهم ارفعنا بالقرآن وانفعنا ويَضَعُ به آخرين"([9]).
فَأَقْبِلُوا عباد الله على القرآنِ بصدورٍ منشرحة، وقلوبٍ منفتحة، وعقولٍ واعية، ونفوسٍ مطمئنة؛ ليُعتمد القرآن ركيزة للعلوم، وأساساً للمعارف والفهوم، ومنطلقاً للدراسات والأبحاث، ومُحَدِّدَاً للقيم والمفاهيم، ومفتاحاً للانتصارات؛ باستخدام أسلوب الإحياء والتطوير، والانبعاث والتحديث.
فليس هناك أرقى من نهضةٍ؛ تقومُ على العلم.
ولا أبقى على حضارةٍ؛ تكون الحكمةُ رائدها.
ولا أخلدَ من أمةٍ تقومُ على الصلةِ الربانية والطهارةِ النفسية.
وكل هذا مبثوث موجود في كتاب ربك.
فالقرآن الكريم نورُ العلم الذي خرجت به الأمة من ظلمات الجهل وترهات الجاهلية.
وهو الهدى نحو الرقي الإنساني بعد حيرة الضلالات السابقة واللاحقة.
وبكلمة جامعة: القرآنُ حركةُ إحياءٍ وانبعاث؛ ونهضةٍ وعُمْران؛ يُصْلِحُ الزمانَ والمكانَ والإنسانَ؛ لطي صفحات الخمول والموات، وتذويب التحجر والجمود، وتجاوز المحاكاة والتقليد؛ للوصول إلى حركة الفعل والإبداع، وتجدد الجهاد والاجتهاد والتلازم بينهما، وللوصول إلى خير المواكبة والتحديث، ونعمةِ الواقعية والتطوير، قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وِلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ([10]).
ففي الإحياء حياة لكل شؤون الناس، وتنمية اقتصادية واجتماعية على أوسع مجال.
ففي إحياء ليلة القدر حياة للإنسان الفرد؛
طوبى لِمَن أحيا ليلة القدر ببذل الخير وفعل المعروف؛ برفع مستوى معيشةٍ لفرد.
وطوبى لِمَن خفف آلام أسرة، ونقلها من حالة فاقة وضيق، إلى ساحة كفافٍ وَسَعَةٍ، بتحقيق الكفاية الحياتية لها.
في مثل هذا إحياءُ ليلةِ قَدْرِك، وبمثل هذا تشريفٌ لمنزلتك، فهذه الأعمال وأشباهُها هي الرافعة لشأنك، والمشرِّفة لِقَدْرك؛ عند الله وعند خلقه.
ونلمح في الإحياء نورَ تنميةٍ في المجال الاقتصادي الخاص والعام؛ بتحويله من مشروعِ إنفاقٍ خِدْمي صِِرْفٍ؛ إلى مشروعٍ تنموي مثمرٍ منتج، وفي هذا عملية إحياءٍ، وحسنُ تقديرٍ؛ متوافقٌ مع ليلة القدر.
في الإحياء للحياة: تنمية للواقع المادي بما يُحَسِّنْه، وللأعمال بما يجعلها مُتْقَنَة، وللفنون بما يُجَمِّلُها؛ مع ربط كل ذلك بالخالق المكوِّن، بالرحيم الرحمن، بِمَن عَلَّم الإنسانَ القرآن؛ متجاوزين التعلق بالشكل والمظهر، واصلين إلى الحقيقة والجوهر؛
فالعلوم مرتبطة بالله العليم، والعمل مرتبط بالله الرقيب، والحكمة مرتبطة بالله الحكيم، والصنعة والصناعة مرتبطة بالله الخبير، والزراعة مرتبطة بالله المحيي، والتجارة مرتبطة بالله الحسيب، والطب مرتبط بالله الشافي، والهندسة مرتبطة بالله المبدع، والقضاء مرتبط بالله العادل، والمحاماة مرتبطة بالله الحق، وهكذا في كل شؤون الحياة.
فهنيئاً لكم أيها السالكون سبل إحياء الإنسان، هنيئاً لكم أيها العاملون في سبيل التنمية؛ وقد اتخذتم سبل التحديث من مفاهيم القرآن، واستخدمتم أدوات التطوير من نتاج حضارة الإسلام؛ بعيداً عن التقليد والمحاكاة للآخر، ليس نبذاً أو تنكراً، بل تأصيلاً وتحققاً.
فلسطين والعراق:
أيها المؤمنون في كل مكان: يحتفل المسلمون بليلة القدر وشعبنا في فلسطين الحبيبة، وفي العراق الجريح؛ يعيش حالة تُدمِي القلب، وتَعصِر الفؤاد.
فمع لحظات الغروب يفطرون على صوت المدافع، لكنها المدافع القاتلة والقنابل المتفجرة.
ويصومون مع هدير الطائرات ودوي الدبابات وأزيز الرشاشات؛ تخترق أجسامهم، وتدمِّر أحلامهم، وتخطف بالموت مواليدهم وأطفالهم.
ولهم علينا حق؛ فإن لم نتمكن اللحظةَ واليومَ من أداء كامل هذا الحق هواناً وضعفاً؛ فلا أقل من المحافظة على هذا الحق وصيانته، وتوريثه لأجيالنا وأبنائنا عزة وقوة؛
فالقدس أمانة، ووحدة الأمة والشعب أمانة، ووحدة المسار والمصير أمانة، ومأمورون من الله بأداء الأمانة.
تذكروا عباد الله: أنه في الوقت الذي تمتلأ فيه مساجد المسلمين في شتى بقاع العالم بالعُبَّاد والداعين، الراكعين الساجدين في ليلة القدر المباركة؛ فإن هناك مسجداً أسيراً؛
الأقصى وراء القضبان صامد، وخلف الأسوار ثابت، يرنو بعين حزينة، نحو أمة ضعيفة عن نصرته، كليلة عن تأييد حق شعبه.
المسلمون وتهمة الإرهاب:
أيها المسلمون: يأتي احتفالنا اليوم وسط ظروف عالمية تحتم العمل الدؤوب بمسئولياتنا؛ كلٌّ في موقعه على أكمل وجه، وأعلى درجة من الإحكام والتقدير، إذا أردنا أن نحيا ليلة القدر بمعناها؛ للحفاظ على خصوصياتنا الدينية والثقافية والاجتماعية.
فلقد اُتخذت بعضُ الأحداثِ ذريعةً للإيحاء للعالم بوجود صلة بين أمتنا المسلمة، وبين القتل والتدمير والإبادة والتطرف، وقاموس التهم جاهز.
وحُوِّلَت أنظارُ المؤسساتِ الدوليةِ الكبرى إلى أعمال عنف فردية أو جماعية، وتناست بل تعامت عن أعمال العنف المنظَّم؛ الذي يُجرِّف الأرض، ويُهدِّم الحجر، ويُحرِّق الشجر، ويقتلع الإنسان من جذوره، ويغتال شعباً أعزل بأكمله.
وماذا يُسمى احتلالُ أرض الغير، وامتهانُ كرامة الإنسان، وإذلالُ الشعوب؛ إن لم يكن إرهابَ دولة؟!!!.
الدعاء:
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وأدم اللهم نعمة الاستقرار في بلادنا، ونعمة التقدم والازدهار في ربوعنا.
اللهم إنك عفو تُحب العفو فاعفو عنا، واقض حوائجنا فيما يرضيك عنا.
وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر الميامين، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ علاء الدين الزعتري
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) سورة الزخرف، [43/44].
([2]) سورة الأنبياء، [21/10].
([3]) سورة الشمس، [91/2].
([4]) سورة البقرة، [2/121].
([5]) سورة العلق، [96/1].
([6]) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو.
([7]) سورة القدر، [97/5].
([8]) سورة القدر، [97/5].
([9]) رواه مسلم.
([10]) سورة الأنفال، [8/24].